أبي يعلِّم القرآن منذ أربعة عقود ، وأمي أميَّة لا تقرأ ولا تكتب ..
ما يؤمن به أبي تماماً هو أنني أجهل من ثور ،
وأن كرسي المصحف ( أو مسند المصحف ) ـ لا بد ـ قد حفظ ما لم أتمكن من حفظه حتى الآن !
ولو كتب الله له أن يقرأ ، لتلى بصورة أجمل من الصورة التي أتلو بها !
أما أمي فهي ترى بأنني أعلم أهل الأرض ، وأنني المثقف الوحيد بين أشقائي ..
أقرأ الكثير من المجلات والروايات ، أتكلم كثيراً ، أشاهد الكثير من الأفلام !
فلا بد من أنني مثقف فعلاً ..
ثم إنني نحيل هزيل ، ضعيف البنية ، أرتدي النظارات ..
بينما أصغر أشقائي ـ حجماً ـ يشبه الفيل الهندي ..
صحيح أن لدي أخ نحيل ، لكنه يصفف شعره بجيل الشعر ، والمثقف لا يفعل أموراً رقيعة كهذه !
تطلبني ـ أمي حفظها الله ـ في كل المهمات الصعبة ، بدءاً من البحث في قنوات الرسيفر ، واختيار قناة إم بي سي ، لتشاهد سلمان العودة ..
هذه مهمة سهلة طبعاً ، لكنها تنظر لي بإعجاب وتتمتم : الله يزيدك .
مروراً بمحاولة تشغيل جهاز فحص السكر ـ الذي يعتمد على الرسوم أكثر من اعتماده على اللغة الإنجليزية ـ لكنني أتعمد نطق بعض الكلمات السهلة بصوتٍ مرتفع ( لزوم الإيحاء طبعاً ) مثل
( open - out ) !
وانتهاءاً بالاستفسار من موظف الاتصالات السعودية حول سبب عدم رد خالي أبو رائد على مكالماتها !
حاولت إقناعها بأنه لا علاقة لموظف الاتصالات برد خالي ( أبو رائد ) على المكالمات ، وأن خالي ( أبو رائد ) سوف يرد عليها ـ حتماً ـ بمجرد أن يخرج من الحمام ، أو يصحو من النوم ، أو ينهي وجبة الغداء ، أو يجد جواله الذي يضيعه في اليوم سبع وخمسون مرة ، وهو عندما يجده فهو لا يجده إلا لكي يضيعه في مكان آخر !
المهم أنه سوف يرد عليها عندما ينتهي من فعل الأشياء التي يكون منشغلاً في فعلها !
المهم اتصلت بموظف الاتصالات بناء على طلبها ، واستغرقت نصف ساعة أستمع للصوت الرخيم الذي يخبرني بأن خدمتنا هي محور اهتمامهم ، ولأنه هناك عملاء جاري خدمتهم فإنه علي الانتظار حتى ينتهون من خدمة العملاء الآخرين ( اللي جاري خدمتهم واللي ما بعد جرت خدمتهم ، المهم أن علي الانتظار طويلاً ) فأغلقت السماعة ، وأخبرتها بأنني اتصلت بالموظف ـ وأنا صادق فعلاً ـ فسارعت للاتصال بخالي الذي أجابها على الفور !
فنظرت إلي نظرة ذات معنى !!
أخبرتها بأنه لا علاقة لموظف الاتصالات برد خالي ، وأن خالي لو كان يصنع تمثالاً من الشمع لأصالة نصري مستخدماً قدميه ، لانتهى منه خلال الفترة التي انتظرتُ فيها موظف الاتصالات !!
العجيب أنه في كل مرة أتصل فيها بشركة الاتصالات ، يرد بعدها خالي مباشرة ، حتى بدأت أقتنع فعلاً بأن هناك علاقة بين الاثنين !
..
...
قررت أمي تعلم القراءة والكتابة ـ وهي في الستين من عمرها ـ لأنها تريد أن تجرب متعة تلاوة القرآن ..
وأنتم تعرفون أنه ـ وبمجرد تعلمها القراءة والكتابة ـ سوف تتمكن من فعل كل الأشياء التي كنت أفعلها لها !
نعم ، سنة واحدة سوف تجعلها مثلي تماماً ، فأنا ـ وبالرغم من أنني قضيت أكثر من نصف عمري في الدراسة ـ إلا أنني لا أعتقد بأنني كنت أفعل أي شيء إلا القراءة والكتابة !
أما ما عدا ذلك فهو معلومات عامة من النادر أن أستفيد منها ، فأنا لا أذكر نصاب الزكاة ، ولا أعرف حاصل ضرب خمسة في سبعة ، ولا أعرف ما هو العنصر الكيميائي الذي يرمز له بالرمز c !
هذا هو تماماً ما يشعرنا بالرضا عن النفس ، أن هناك دوماً من هم أقل منا !
دائماً هناك من نمدهم بالقوة ، بالرغم من ضعفنا !
دائماً هناك من يحتاج إلينا مهما بلغت ضئالتنا !
...
..
كانت في يدها ورقة مليئة بالأسئلة ، على غرار : أول من تكلم في المهد ، أول مولود في الإسلام ، أول سكرتير عام للأمم المتحدة !
الكثير من الأشياء التي لا تفيدك أبداً في حياتك اليومية ، إلا لو كنت سوف تشارك في من سيربح المليون !
حتى الأسئلة ليس هناك ما يربطها ببعض ، فأنا لا أعرف ما هي العلاقة التي تربط أول شهيد في الإسلام بأول أمين عام للأمم المتحدة !!
على العموم ، هذا هو مفهومنا للثقافة العامة ، ولا نستطيع تغييره بسهولة ..
بعد صلاة المغرب استدعتني لأحل لها كل تلك المسائل ، وأنا ليس لدي أي فكرة عن أول امرأة اكتحلت بالإثمد !
ناهيك عن أنني لا أعرف ما هو الإثمد أصلاً !
لكنني وجدت أنها فرصة مناسبة لأستعيد مكانتي ، أو بالأحرى للحفاظ عليها ..
ابن أختي بجانبها ويقرأ علي الأسئلة :
من هو أول من كفر !
كنت قد قرأت هذه المعلومة في يومٍ من الأيام لكنني نسيتها تماماً ..
عدلت نظارتي ، وتنحنحت ، وقلت : طبعاً يقول الله سبحانه وتعالى ( وما كفر سليمان ولكن الشيطان كفروا )
الجميع من حولي : صدق الله العظيم
بنت أختي ـ شقيقة من يقرأ الأسئلة ـ تقول : فرعون فرعون ، سمعت جوابها واستبعدته .
ثم صمتّ دقيقة لأعرف ما الذي أنوي قوله بعد ذلك ، لكن صمتي بدا وكأنه صمت الشيخ يلتقط أنفاسه ، ثم قلت : ويقول أيضاً ( ولا تكونوا أول كافرٍ به )
الجميع من حولي : صدق الله العظيم
ابن أخي ـ علاء على ما أعتقد ـ يقول : إبليس إبليس !
يسسس ، هو إبليس فعلاً ، لقد تذكرت ..
ثم قلت ، الآيات التي تحدثت عن الكفر كثيرة جداً ، لكن الأكيد أن أول من كفر هو إبليس لعنه الله !
زوجتي تربت على ظهري في فخر ، وكأنني الحصان الفائز في سباق دبي للخيول !
أمي تنظر لي بكثيرٍ من المحبة ، الأطفال ينظرون لي بإجلال وكأنني إبليس ذات نفسه ..
حتى ابن أخي ـ علاء على ما أظن ـ وهو من قال الجواب قبلي بكل بساطة وتلقائية !
صفق بيديه وهو يقول : والله إنك خطير يا عمو مصطفى ..
ليس مهماً أن يكون كل من حولك يعرف أكثر منك ، المهم هو كيف تقنعهم بأنك تعرف أكثر منهم !!
..
لا أعرف تحديداً متى توصلت لهذه القناعة ، بأنه لا أحد من الأشخاص الذين يتحدثون يعرفون !!
وأن من يعرف فعلاً يصنع ولا يتحدث !!
وبما أننا لم نعد نضيف شيئاً ، حتى أننا لا نعرف كيف نصنع عود كبريت ، فإننا بالتالي لا نعرف !
ابتداءاً باالعامل الهندي الذي يقنعك بأن الكمبرسر في ثلاجتك متعطل ، وأن كلفة إصلاحه مائتا ريال ، فتقول له أن : يفتح الله ..
والعامل ـ من أبناء جلدتك ـ والذي يقسم لك أن المبرِّد ليس على ما يرام ، وأنه سوف يأخذ ـ من أجلك فقط ـ مائتين وخمسين ريالاً ـ !
ثم تفتح ابنتك الثلاجة لتتناول عصير سنتوب ، وتعبث بيدها بمؤشر البرودة ، فيعود صوت المكائن التي تهدر عادة في الثلاجة ، إلى إصدار تلك الأصوات المزعجة مرة أخرى !!
..
حتى بائع الطيور الذي اشتريت من عنده ضفدع يحاول أن يتصرف مثل الكناري !
قال لي بأن السبب في عدم تغريد الطير هو أنه ليس لديه أنثى ليغازلها !!
سألته : طيب ليش ينط !
فأجاب : إحم إحم ، أنت عارف ليش !
فأجبت : لا والله إحم إحم ما بعرف ليش !
ليرد : يحتاج إلى أنثى !
المهم ابتعت له ضفدعة أخرى تتظاهر هي الأخرى بأنها كنارية ( هي أنثى الكناري تبقى إيه ) !
وأصبح المجموع ثلاثمائة ريال ..
المهم أنه لم يغرد ، ولم تفعل هي ..
وفي بيت أحد الأصدقاء هناك كناري يغرّد بصوتٍ جميل ، وهو وحيد ..
فسألت صاحبي عن سبب تغريد هذا الكناري ؟ بينما الكناري الذي لديّ لا يفعل ؟!
فأجابني : بأن الكناري لا يغرٍّد إلا إذا كان وحيداً ، وأنه يغرِّد شوقاً للأنثى ، وأنت أحضرت له أنثى فمن الطبيعي أن يتوقف عن التغريد بما أنه حصل على مبتغاه !!
آها ، إذن الحقيقة هي أنه لا أحد يعرف ، مثلي تماماً ، لكننا جميعاً توقفنا عن قول ( لا أعرف )
لأنه لا أحد مقتنع حقاً ، بأنه من قال : لا أعرف ، فقد أفتى !
منقول .